في الوقت الذي تتسابق فيه الشركات العقارية على طرح مشروعات جديدة وشقق “بمواصفات عالمية”، يعيش السوق المصري واحدة من أكثر فتراته غموضًا في التسعير.
فالمشتري لا يعرف السعر الحقيقي، والبائع يحدد القيمة بحسب “من أمامه”، والمكاتب العقارية تُضيف هوامش غير معلنة، في حين تغيب أي خريطة سعرية رسمية توضح الاتجاه العام للسوق أو مستويات الأسعار في المدن والمناطق المختلفة.
من الطبيعي في أي سوق ناضج أن تكون هناك جهة مرجعية أو قاعدة بيانات تعكس السعر الحقيقي للمتر في الأحياء والمدن الجديدة، كما يحدث في دول عديدة عبر “المؤشر العقاري الوطني”.
لكن في مصر، لا توجد جهة رسمية تعلن ذلك بشفافية، مما يخلق حالة من الفوضى السعرية، حيث قد تجد نفس الوحدة تباع بفارق يصل إلى 30 أو 40% بين مكتب وآخر.
أصبح بعض المطورين الكبار يحددون الأسعار بما يتجاوز القدرة الشرائية الفعلية، اعتمادًا على أن السوق “يتقبل أي رقم” طالما هناك طلب على العقار كملاذ آمن.
لكن هذه السياسة أدت إلى تشويه السوق، فبدلًا من المنافسة العادلة على الجودة أو التصميم، أصبحت المنافسة على “من يرفع السعر أكثر”، دون مبرر حقيقي سوى خلق انطباع بالرفاهية والقيمة العالية.
المكاتب العقارية، بدورها، أصبحت جزءًا من المشكلة لا الحل.
فبدل أن تكون وسيطًا منظمًا، دخلت في سباق العمولة والوساطة المزدوجة، ما أدى إلى تفاوت كبير في الأسعار النهائية.
ولأن لا أحد يعرف السعر الرسمي، أصبح التفاوض أشبه بـ مقامرة اقتصادية، يخسر فيها المشتري الثقة، ويفقد السوق توازنه.
إن غياب الشفافية لا يضر فقط بالمستهلك، بل يهدد ثقة المستثمرين الأجانب الذين يحتاجون إلى بيانات واضحة قبل دخول السوق.
كما يُضعف من قدرة الدولة على رسم سياسات إسكانية عادلة، لأن القرارات تبنى على أرقام غير دقيقة أو تقديرات مضخّمة.
السوق المصرية بحاجة إلى مؤشر سعري رسمي يصدر دوريًا، يشمل كل المدن والمشروعات، بالتعاون بين وزارة الإسكان، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهيئة المجتمعات العمرانية.
مؤشر يعلن بوضوح متوسط سعر المتر، ونسب الزيادة الفصلية، ومعدلات الطلب والعرض — ليكون مرجعًا موحدًا للمطور والمستثمر والمواطن على حد سواء.
سوق العقارات في مصر لا ينقصه الطلب، بل ينقصه النظام.
ومتى وُجدت الشفافية، وُجدت الثقة، وحينها فقط يمكن أن ننتقل من مرحلة العشوائية السعرية إلى الاستقرار الحقيقي.
فالعقار لا يعيش على الطوب والإسمنت فقط، بل على الوضوح والثقة قبل كل شيء.